فتوى توحيد الآذانمن كتشنر الإنجليزي إلى وولش الأمريكي

فتوى توحيد الآذان

من كتشنر الإنجليزي إلى وولش الأمريكي

 

 د. هاني السباعي

 

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن

 

لقد كان المتنبي على قدر كبير من الصدق في وصفه للحالة المصرية:

وكم ذا بمصر من المضحكات *** ولكنه ضحك كالبكا

لقد استيقظ ضمير وزارة الأوقاف المصرية فجأة وشرعت في تجهيز حملة كبرى لاجتياح المآذن النشاز التي تعلو سماء المحروسة وضم أصوات المؤذنين في صوت واحد وعلى نغمة واحدة ومن ثم العودة إلى شعيرة التوحيد (توحيد الآذان) التي أفسدها هؤلاء الشركاء (كل مساجد القاهرة) ما عدا المسجد الذي ستتوحد فيها المآذن لكي يكون أسوة تقتدي به سائر مساجد مصر ومنائرها الآبقة!

ذكرنا هذا الصنيع ما زُعم أن الخليفة هارون الرشيد أمر المغنين أن يختاروا له مائة صوت فاختاروها، ثم أمرهم باختيار عشرة منها فاختاروها، ثم أمرهم أن يختاروا منها ثلاثة ففعلوا.. وفي رواية أن المغنين أجمعوا على صوت واحد من هذه الثلاثة كما حكى الأصفهاني في كتابه الأغاني وإن كان لنا تحفظات عليه.. هكذا قد يكون دار في أدمغة القائمين على وزارة الأوقاف أن يوحدوا أصوات المؤذنين في صوت واحد على غرار مزاعم صاحب الأغاني .. ومن ثم يرتاح الساهرون والساهرات وهم ينامون على صوت عندليب يؤذن بالنهاوند أو البياتي!! رغم علم وزارة الأوقاف أن هؤلاء المتضايقين من أصوات المؤذنين لا يدخلون بيوتهم غالباً إلا بعد انتهاء صلاة الفجر ومن بقي منهم في بيته فإن رأسه أثقل من أن تسمع أصوات المآذن نتيجة للأدخنة الزرقاء والحمراء التي عشعشت في أمخاخهم!

قد يقول قائل ما علاقة ذلك بعنوان المقالة: العلاقة ستتضح عبر النقاط التالية:

صاحب الفتوى وزير الأوقاف:

لقد تولى كبر هذه الفتوى التي سأطلق عليها (الحملة) غير المسبوقة في تاريخ مصر؛ فضيلة الدكتور محمود حمدي زقزوق.. وقد كان منذ تعيينه وزيراً للأوقاف في عام 1996م حتى وقتنا الحاضر في حلف شيخ الأزهر الدكتور سيد طنطاوي الذي تحول الأزهر في عهده إلى زاوية صغيرة يطؤها كل من هب ودب! والدكتور حمدي زقزوق من مواليد محافظة الدقهلية سنة 1933 وحاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ميونخ بألمانيا ومتزوج من سيدة ألمانية. وله عدة كتب وأبحاث وفعاليات لتسويق الإسلام كي يرضى عنا الغرب الذي لا ولن يرضى حتى يذوب الإسلام في الغرب ويكون نسياً منسياً!

لكن التساؤل المتبادر إلى الذهن لماذا أثار وزير الأوقاف هذه الحملة (توحيد الآذان) في هذه الأيام الحوالك والأمة بهذا الضعف؟! هل هذه  دعوى مبرأة؟ أليست لها علاقة بالأجندة الأمريكية من تجفيف منابع التدين وتغيير مناهج التعليم.. والحملة المسعورة على ما يسمى بمحاربة الإرهاب أعني  مكافحة الإسلام؟! أم أنها بحق فتوى باطلة يراد بها باطل؟! كل ذلك يقودنا إلى  أن نرجع القهقرى لنلتقط الخيط من بداية القرن الميلادي المنصرم على النحو التالي:

أولا: كتشنر وطلب إنشاء  وزارة للأوقاف:

 بعد أن احتل الإنجليز مصر عام 1882م أعملوا عقولهم للتفكير في كيفية التحكم في العمود الفقري الذي يمد المجاهدين والثوار في الخروج عليهم ومقاومتهم فوجدوا أن محمد علي باشا حاكم مصر (1805ـ 1848) لم يقض على الأوقاف تماماً ولا زالت هناك بقية من الإستقلال المادي لدى الفقهاء الذين يشرفون على أوقاف المسلمين التي حبسها أجدادهم وآباؤهم للإنفاق على كافة وجوه البر ومنها طلبة العلم والمعوزين والمجاهدين.

ولما كانت مصر في ذلك الوقت تابعة رسمياً للدولة العثمانية لم يشأ الإنجليز في أول الأمر أن يعلنوا أنهم محتلون مصر بصفة رسمية لكنهم قرروا أن الفرصة مواتية خاصة بعد عزل السلطان عبد الحميد وسيطرة حزب الإتحاد والترقي العلماني على مقادير الأمور.. فتم تعيين السير (هربرت كتشنر المتوفى غرقاً في 1916م) كان يشغل منصب وزير الحربية البريطانية وكان سردار الجيش المصري وهو الذي حارب جيش المهدي في السودان إذ أنه لما استولى على أم درمان سنة 1899م رأى ألا يبقي لذكرى المهدي تعلقاً في قلوب قبائل السودان، فأمر بهدم قبته ونبش قبره وبعثرت عظامه في النيل وبعث بجمجمته إلى دار التحف البريطانية تماماً مثلما بعث الفرنسيون جمجمة البطل سليمان الحلبي إلى متحف باريس.. ونظراً لدمويته هذا الكتشنر السفاح وإجرامه في حق المسلمين أعجبت به إنجلترا بفوزه على دراويش السودان فمنحته لقب (لورد الخرطوم)..  واختير فيما بعد كمندوب سام بعد السير (دون جورست) الذي كان خلفا للسير(أفرين بيرنج) الشهير باللورد كرومر.. المهم أن اللورد كتشنر تقرب إلى شيخ الإسلام والصدر الأعظم في الآستانة واستطاع أن يحصل منهما على الموافقة على أن تكون بمصر وزارة للأوقاف. وقد لجأ كتشنر إلى الباب العالي لأنه يعلم أن الخديوي عباس لن يوافق على هذا الطلب وقد يحرض العلماء والساسة ضد الإنجليز لذلك فقد استصدر الأمر من الباب العالي حتى لا يكون في مقدور العلماء أن يعترضوا وللأسف الشديد تحقق لكتشنر ما أراد إذ نشرت الوقائع المصري في 21 ذي الحجة 1331هـ الموافق 1913م نص مرسوم الباب العالي بإنشاء نظارة للأوقاف (وزارة) بدلاً من الديوان الذي كان يشرف على أوقاف المسلمين في ذلك الوقت. وهكذا تحول الديوان إلى وزارة بطلب من المندوب البريطاني لمصر كتشنر بزعم الإصلاح والتنظيم الإداري والمؤسسي للبلاد.. لكن الحقيقة أن إنجلترا كان في نيتها أن تستقل بمصر وتوضع مصر تحت الإنتداب وهذا ما حدث إذ صارت مصر تحت الإنتداب الإنجليزي رسمياً في 1914م ومن ثم تكون وزارة الأوقاف قد خضعت تحت سيطرة الإحتلال ويسهل السيطرة عليها والقضاء على استقلالية الأوقاف وبالتالي إحكام السيطرة على كافة المؤسسات والمرافق التي كانت تتبع الأوقاف ومنها التعليم الأزهري والكتاتيب والمساجد.

 

ثانياً: ديفيد وولش وقرار توحيد الآذان:

يعتبر السفير الأمريكي (ديفيد وولش) من أكثر السفراء الأمريكان تدخلاً في شئون الدولة بطريقة سافرة ..  طبعاً كلهم من قبل كانوا يتدخلون لكن ليس بهذه الطريقة الفجة؛ فنراه يراقب كل المؤسسات في مصر ويضع أنفه في كل صغيرة وكبيرة! حتى المقالات الصحفية يعترض عليها ورغم أنه شخص غير مرغوب فيها من الشعب المصري فقط إلا أنه يتصرف بكل عنجهية كمندوب احتلال وليس سفيراً كما يفترض! وإلا كيف نفسر تعيينه خمس مستشارين في الهيئة العليا التي تشرف على المناهج في وزارة التعليم؟! تحت مسمى الإصلاح حيث صار لهذا الـ(وولش) مستشار أو أكثر في عدة وزارات كبرى وصغرى.. وبعد كل ذلك يزعم مشايخنا الأفاضل أن دعوتهم بتوحيد الآذان في القاهرة انطلاقاً من دعوة التوحيد! ولا علاقة لها بضغوط أمريكية وأنهم استندوا إلى آراء لمذاهب الأئمة الأربعة (أبو حنيفة + مالك +الشافعي + أحمد بن حنبل) .. ونحن نربأ بالأئمة الأربعة و كل أئمة الإسلام أن يكون مرادهم هو مراد الأئمة الأربعة الجدد؛ أصحاب فتوى توحيد الآذان: ( شيخ زقزوق + شيخ على جمعة مفتي الديار + شيخ نصر فريد واصل المفتي الأسبق + ورابعهم شيخهم شيخ الأزهر طنطاوي)..  فعلاً إنها فتوى باطلة يراد بها باطل!

 عودة إلى ديفيد وكتشنر:

ومن الموافقات العجيبة أن مصر في ذلك الوقت كانت تحت الانتداب الإنجليزي وأن الذي قام بتأميم هذا الشريان الحيوي بزعم الإصلاح هو المندوب السامي كتشنر! .. ثم يسير الزمان في عجلته والشخوص قد تغيرت لكن المكان هو ذاته حتى وصلنا إلى المندوب الأمريكي السامي ديفيد وولش! الذي لم يتقدم بطلب طبعاً مثل سلفه البريطاني كتشنر بل مجرد إشارة وهو يعلم أن سدنة النظام المصري لديهم قرون استشعار يعرفون بها أين تتجه البوصلة الأمريكية فيسبقونها!!

لكن الفارق أن أحمد حشمت باشا الذي كان أول وزير للأوقاف منذ عام 1913 كان مغلوباً على أمره ولم يكن يدور في خلده عندما عينته محكمة مصر الشرعية بدلاً من إبرهيم نجيب باشا آخر مدير لديوان الأوقاف.. لم يكن يدور في خلده أن وزارة الأوقاف ستصل إلى هذا الهوان على يد الدكتور زقزوق وأصحاب الفضيلة!

 

كان أولى بوزير الأوقاف:

كنا نود أن يتوجه وزير الأوقاف بحملته الميمونة إلى مجلس الدولة يطالبهم بإلغاء كل القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية.. كنا نود أن يطالب الدولة ببطلان قانون 180 لسنة 1952 الذي ألغى الوقف الأهلي.

كنا نود أن يطالب الدولة بأن تساوى أوقاف المسلمين مع أوقاف نصارى مصر أليس هذا تمييزاً عنصرياً أعني قانون 547 لسنة 1953 الذي سلب حق الواقف في إدارة وقفه هذا القانون الذي استولى على أموال الناس بالباطل .. في حين استثنى القانون 264 لسنة 1960 أوقاف النصارى.

هلا امتطيتم خيولكم واستجمعتم كل العمائم الموقرة وتوجهتم نحو قصر العروبة لتسردوا أراضي المسلمين التي نهبت بالقانون 152 لسنة 1957م وتم تسليمها إلى ما يسمى بالإصلاح الزراعي الذي أفسده وزير زراعتكم الهمام فتسبب تفشى الأمراض الخبيثة وإصابة حوالي 40% من الشعب المصري بالوباء الكبدي وما خفي من أمراض أدهى وأمر.

لقد صدق الشيخ صلاح أبو إسماعيل عندما قال كلمته الشهيرة وهي ثابتة في مضبطة مجلس الشعب بتاريخ 19 فبراير1980 أثناء استجواب وزير الأوقاف الأسبق عبد المنعم النمر عندما وصف ما حصل للأوقاف (بأنه تدويخ وبلطجة) وقال (كأن أوقاف المساجد أوقاف لعدو وقع تحت أيدينا).. نعم هكذا يتصرف أصحاب الفضيلة المعينون من قبل أنظمة لا ترقب فينا إلا ولا ذمة.

صفوة القول 

هناك سياسة منظمة انتهجها الاحتلال القديم (كتشنرالإنجليزي) وأورثها للاحتلال الجديد (ديفيد وولش الأمريكي) بغية القضاء على هوية الأمة وتقطيع أوصالها الحيوية.

لقد صار تأميم المساجد الأهلية وحتى التابعة إلى الجمعية الشرعية وغيرها من جمعيات دعوية خيرية سياسة تهدف وزارة الأوقاف من ورائها تكميم أفواه الدعاة الحقيقيين وتعيين دعاة مبرمجين أمنيا ولديهم صك حسن سير وسلوك من شيخ الإسلام رئيس مباحث أمن الدولة! وإلا كيف نفسر استمرار وزارة الأوقاف في الاستيلاء على المساجد الأهلية وافتخار وزير الأوقاف أنه قد ضم أعداداً جديدة إلى من المساجد إلى أرض المحروسة ! ليته شن هذه الحملة لاسترداد مدينة أم الرشراش وسيناء المنزوعة السلاح إلى أرض مصر من العود الحقيقي لأمة الإسلام!! لكنهم بالطبع لا يفعلون! ففي يوليو 2004 أصدر الدكتور زقزوق قراراً بضم 2500 مسجد أهلي وزاوية في مختلف أنحاء مصر..  علماً أنه عندما تولى الوزارة 1996 كان وزارة الأوقاف يتبعها 24 ألف مسجد وتشرف على 30 ألف مسجد غير حكومي طوعاً أو كرها وازداد تأميم المساجد والاستيلاء عليها بعد أحداث سبتمبر 2001م تلبية لرغبة المندوب الأمريكي في القاهرة ديفيد وولش!

هناك بعض المصطلحات تعرضت لعوامل التعرية السياسة فتغير مدلولها إلى  القبح والنفور مثل كلمة (سلام) تعني على البديهة طبقاً للقاموس الإعلامي والسياسي المهيمن على مقاليد العالم (سلام = انبطاح = هوان = الرضا بالدنية) (معتدل = انهزامي = منحرف) .. أما (أوقاف = وقف حال = خراب المساجد = أكل أموال الناس بالباطل)..

هل استيقظت ضمائر علمائنا الأجلاء لتغيير المنكر والقضاء على الفساد الضارب بجذوره في كافة مؤسسات الدولة.

الشعب المصري في أمس الحاجة إلى أن تكونوا في طليعة حملة تحطم الحواجز التي وضعت على الحدود المصرية الفلسطينية لنجدة شعب فلسطين الذي يذبح ببركة زعمائكم وزياراتهم المشؤومة لشارون وعصابته.

كنا نود أن توحدوا كلمتكم يا أصحاب الفضيلة  وتدينوا الاحتلال الأمريكي لعاصمة الرشيد وتستنهضوا الأمة للقيام بواجب الجهاد الذي هو ثابت بالقرآن والسنة والإجماع وثابت بفتاوى أصحاب المذاهب الأربعة!  للدفاع عن حياض المسلمين المنتهبة بدلاً من هذه الحملة الخائبة التي ما أريد بها إلا وجه ديفيد وولش وأسياده في البيت الأبيض!

كنا نود أن تطالبوا حكومتكم السنية بترشيد القنوات العشر المحلية إلى واحدة أواثنتين تلكم القنوات التي لا تبث إلا الفساد والخلاعة وكان من ثمرتها عبادة الشيطان وظهور الشواذ علانية في أرض الأزهر الذي ضيعتم مهابته من قلوب الناس.

حسبناكم قد توجهتم بحملة تتوحدون فيها لتقتحموا السجون العمومية ومقار أمن الدولة التي تخرج من أقبيتها أرواح قوافل الشهداء الذي يموتون من جراء التعذيب المنظم..  أكثر من 60 ألف مظلوم موزعين على 25 سجناً في أرجاء أرض الكنانة!.. هلا وجهتم حملتكم لإطلاق سراحهم وإدخال البسمة على شفاه أطفالهم وذويهم. أليس هؤلاء موحدين مثلكم؟!

يا أصحاب الفضيلة يا ملح البلد! هلا أفتيتم لنا بكفيفة القضاء على البطالة وكيف يخرج الناس من هذا الضنك؟ ألم ترق قلوبكم لهذا الموظف الذي قتل أولاده لأنه لا يستطيع أن يوفر لأولاده مصارف المدارس؟! هلا توجهتم بحملة لحل مشكلة الشباب العاطل عن العمل الذي وصل إلى إلى أكثر من 40%.

هلا وحدتم جهودكم يا دعاة التوحيد بحملة للقضاء على المواخير وأندية القمار والعوامات التي ترتكب فيها المنكرات وهي تمخر عباب نيل مصر.

هلا  قمتم بحملة لاستنهاض الأمة للقضاء على أس الفساد المتمثل في نظام متآمر على شعبه وعلى الأمة بأسرها في فلسطين والعراق وأفغانستان وها هي ذي السودان على وشك التقسيم ببركة سكوت مشايخنا الأجلاء جداً الذين تركوا الحكام يعيثون في الأرض فساداً.. وانتبهوا فقط للاستيلاء على مسجد يخطب فيه داعية لا يرضى عنه مخبر حقير! أو حكاية توحيد الآذان التي شغلتم بها الناس مؤخراً..

نخشى أن تطالبوا المصلين في حملتكم القادمة أن يحضر كل مصل سماعة يضعها على أذنيه لأن البث سيكون مباشراً والإمام المعين الذي سيؤم المصلين الشيخ المتوفى عبر الإثير!! كما نخشى أن تصدروا فتوى بمشروعية أن تصطف أي جماعة من المصلين لأداء الصلاة خلف (الراديو) ولا مانع من الذهاب إلى المساجد!! ومن أصر على أداء الصلاة في المسجد فيجب وضع كواتيم صوت زجاجية على أبواب المساجد وشرفاته ونوافذه حتى لا نزعج الخواجة ديفيد وبطانته! ولله في مصر وخلقه شؤون!

مركز المقريزي للدراسات التاريخية

20 إبريل 1425هـ الموافق 10 إبريل 2004